علوم القرآن متعددة ومتشعبة، وثمة علم من بينها يسمى علم المتشابه، وهو علم له أصوله وفروعه.
وله علماؤه ومؤلفاته، وله فوائده ومزاياه. نقف في هذه الدراسة على مجمل القول فيه. والبداية بتعريف المراد منه.
تعريف المتشابه:
تفيد معاجم اللغة أن (الشين والباء والهاء) أصل واحد يدل على تشابه الشيء، وتشاكله لوناً، ووصفاً. يقال: شِبْه، وشَبَه، وشَبيه. والشبه من الجواهر: الذي يشبه الذهب. والمشَبِّهات من الأمور: المشكلات. والمتشابهات: المتماثلات. واشتبه الأمران، إذا أشكلا.
وبالتأمل في التعريف اللغوي لمادة (شبه) يُظهر أن المادة تدور على أصل التماثل، والمشكلات من الأمور، والمشتبهات.
و(المتشابه) من القرآن هو: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره؛ إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى. وهو في الجملة ثلاث أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهة اللفظ والمعنى معاً.
والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما: يرجع إلى الألفاظ المفردة. والثاني: يرجع إلى جملة الكلام المركب.
وقوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران: 7)، قال ابن كثير: "في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس.
ومنه آيات أُخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكَّم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس". وقال الطبري: (المتشابه) هو: ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.
والحاصل أن (المتشابه) في قوله سبحانه: {وأخر متشابهات} له ثلاثة معان:
الأول: تشابه عام، وهو تشابه القرآن كله في الكمال والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار.
الثاني: تشابه بمعنى الخفاء واللبس العام؛ وذلك أن ما استأثر الله بعلمه من حقائق المغيبات خفاؤه عام.
الثالث: تشابه بمعنى الخفاء واللبس النسبي، وهذا الخفاء هو على بعض الناس دون بعض، أو في وقت دون وقت.
تحرير مناط البحث:
و(المتشابه) الذي هو مدار البحث هنا هو المتشابه اللفظي، وهو أحد الأقوال التي قيلت في المراد بـ (المتشابه) في الآية الآنفة الذكر. ولم يرد عن أهل العلم تعريف منضبط ومحدد للمتشابه اللفظي؛ فهو بحسب الإسكافي والكرماني: المكرر المختلف في ألفاظه.
وهو عند ابن الزبير الغرناطي ما تكرر لفظه، أو اختلف بتقديم أو تأخير، وبعض زيادة في التعبير. وجعل ابن الجوزي المتشابه ثلاثة أنواع: إبدال كلمة بكلمة أو حرف، الزيادة والنقصان في الحروف والكلمات، التقديم والتأخير.
وعلى الجملة، يمكن أن نعرف (المتشابه اللفظي) بأنه: الآيات المتكررة في موضوع واحد متقارب المعنى، مع اختلاف في لفظها، أو نظمها، أو كليهما.
أنواع المتشابه اللفظي:
قسم الزركشي (المتشابه) اللفظي إلى ثمانية أقسام، عُني بتوجيه بعضها في مواضع من كتابه "البرهان".
وفي دراسة علمية معاصرة، حصر باحثها (المتشابه) في عشرة أنواع، هي وفق التالي:
النوع الأول: المتشابه بالتقديم والتأخير. وهو أربعة أقسام:
- تقديم كلمة وتأخيرها: مثاله قوله سبحانه: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} (القصص: 20)، وقوله تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} (يس: 20).
- تقديم جملة وتأخيرها: مثاله قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء} (الأنعام: 102)، وقوله سبحانه: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو} (غافر: 62).
- الاختلاف في ترتيب المتعاطفات: مثاله قوله سبحانه: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه} (المعارج: 11- 13)، وقوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه} (عبس: 34- 36).
- تقديم الضمير وتأخيره: مثاله قوله تعالى: {وما أهل به لغير الله} (البقرة: 173)، وقوله سبحانه: {وما أهل لغير الله به} (المائدة: 3).
النوع الثاني: المتشابه بالإبدال: وهو ثلاثة أنواع:
- إبدال حرف بآخر: مثاله قوله سبحانه: {كل يجري لأجل مسمى} (الرعد: 2)، وقوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} (لقمان: 29).
- إبدال كلمة بكلمة: مثاله قوله تعالى: {قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} (البقرة: 170)، وقوله سبحانه: {قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} (لقمان: 21).
- إبدال جملة بجملة: مثاله قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم: 34)، وقوله سبحانه: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} (النحل: 18).
النوع الثالث: المتشابه بالإثبات والحذف: وهو ثلاثة أنواع:
- إثبات حرف وحذفه، مثاله قوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا} (هود: 77)، وقوله سبحانه: {ولما أن جاءت رسلنا لوطا} (العنكبوت: 33).
- إثبات كلمة وحذفها، مثاله قوله سبحانه: {ويكون الدين لله} (البقرة: 193)، وقوله تعالى: {ويكون الدين كله لله} (الأنفال: 39).
- إثبات أكثر من كلمة وحذفها، مثاله قوله تعالى: {ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير} (آل عمران: 189)، وقوله سبحانه: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} (المائدة: 17).
النوع الرابع: المتشابه بالجمع والإفراد، مثاله قوله سبحانه: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} (المؤمنون: 9)، وقوله تعالى: {وهم على صلاتهم يحافظون} (الأنعام: 92).
ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (البقرة: 80)، وقوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} (آل عمران: 24).
النوع الخامس: المتشابه بالتذكير والتأنيث، مثاله قوله سبحانه: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} (الأنعام: 90)، وقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} (يوسف: 104).
ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} (هود: 67)، وقوله تعالى: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} (هود: 94).
النوع السادس: المتشابه بالتعريف والتنكير، مثاله قوله تعالى: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} (البقرة: 126) وقوله سبحانه: {رب اجعل هذا البلد آمنا} (إبراهيم: 35).
ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {ويقتلون النبيين بغير الحق} (البقرة: 61)، وقوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير حق} (آل عمران: 21).
النوع السابع: المتشابه بالإظهار والإضمار، وهو نوعان:
- وضع المظهر موضع المضمر، ومثاله قوله سبحانه: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الأنعام: 37) وقوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الأعراف: 187). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {قال فرعون آمنتم به} (الأعراف: 123)، وقوله تعالى: {قال آمنتم له} (آل عمران: 71).
- الاختلاف في الضمائر، ومثاله قوله تعالى: {بل متعنا هؤلاء} (الأنبياء: 44)، وقوله سبحانه: {بل متعت هؤلاء} (الزخرف: 29). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {فأخذتكم الصاعقة} (البقرة: 55)، وقوله تعالى: {فأخذتهم الصاعقة} (النساء: 153).
النوع الثامن: المتشابه باختلاف الصيغة الصرفية، وهو أنواع:
- متشابه بالإدغام والفك، مثاله قوله سبحانه: {ومن يشاقق الرسول} (النساء: 115)، وقوله تعالى: {ومن يشاق الله} (الحشر: 4). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {لعلهم يتضرعون} (الأنعام: 42)، وقوله تعالى: {لعلهم يضرعون} (الأعراف: 94).
- متشابه بالتضعيف وعدمه، مثاله قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} (البقرة: 49)، وقوله سبحانه: {وإذ أنجيناكم من آل فرعون} (الأعراف: 141). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وأنزلنا عليكم} (البقرة: 57)، وقوله تعالى: {ونزلنا عليكم} (طه: 80).
- متشابه بالتجريد والزيادة، مثاله قوله تعالى: {فمن تبع هداي} (البقرة: 38)، وقوله سبحانه: {فمن اتبع هداي} (طه: 123). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {ساحر عليم} (الأعراف: 112)، وقوله تعالى: {سحار عليم} (الشعراء: 37).
- متشابه بالماضي والحاضر، مثاله قوله تعالى: {كذلك نسلكه} (الحجر: 12)، وقوله سبحانه: {كذلك سلكناه} (الشعراء: 200).
- متشابه بالبناء للفاعل والبناء للمفعول، مثاله قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا} (البقرة: 58)، وقوله سبحانه: {وإذ قيل لهم اسكنوا} (الأعراف: 161).
- متشابه بجمع السلامة وجمع التكسير، مثاله قوله سبحانه: {نغفر لكم خطاياكم} (البقرة: 58)، وقوله تعالى: {نغفر لكم خطيئاتكم} (الأعراف: 161). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {ويقتلون النبيين} (البقرة: 61)، وقوله تعالى: {ويقتلون الأنبياء} (آل عمران: 112).
النوع التاسع: المتشابه بالإجمال والتفصيل، مثاله قوله تعالى: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} (البقرة: 51)، وقوله سبحانه: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} (الأعراف: 142).
النوع العاشر: المتشابه بالإضافة وعدمها، مثاله قوله سبحانه: {اذكروا نعمتي} (البقرة: 40)، وقوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم} (المائدة: 7). ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وقبل غروبها} (طه: 130)، وقوله تعالى: {وقبل الغروب} (ق: 39).
منهجية توجيه المتشابه اللفظي:
اعتمد علماء هذا الفن أصولاً محددة، يتم من خلالها توجيه المتشابه من الألفاظ. ويأتي في مقدمة هذه الأصول: النظر في (سياق) كل لفظ من الألفاظ المتشابهة، يقول الزركشي في هذا الصدد: "وطريق التوصل إلى فهمه، النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها، واستعمالها بحسب السياق".
وقريب من هذا قول السعدي: "فينظر في سياق الكلام، وما سيق لأجله، ويقابل بينه وبين نظيره في موضع آخر.. . فالنظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله، من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه". والناظر في مؤلفات هذا العلم، يقف على هذه المنهجية بشكل واضح، إضافة إلى منهجيات أخر، تتمثل في النظر في أسباب النزول، والترتيب بين السور والآيات، والتشاكل اللفظي.
والذي ينبغي التنبيه إليه في هذا الصدد، أن توجيه المتشابه اللفظي في كتب هذا الفن، لا يُسلَّم به بإطلاق، بل بعض توجيهاتهم لا تخلو من نظر؛ مرده إلى أن تلك التوجيهات قد بُنيت على أسس لا يُلتفَتُ إليها عند التحقيق والتدقيق، فهم يوجهون أحياناً المتشابه اللفظي بأدنى مناسبة، وبالتالي فعلى الناظر فيها أن يُعمل النظر والفكر فيها، ولا يأخذها بإطلاق.
فوائد علم المتشابه اللفظي:
لعلم المتشابه اللفظي فوائد عديدة، نذكر منها:
- أنه ضَرْبٌ من التفسير لكلام الله، فهو بهذا يكتسب أهميته، كما يكتسب علم التفسير أهميته.
- يُظهر إعجاز القرآن الكريم ببلاغته النافذة، وأسلوبه البديع؛ ذلك أن وجود المكرر اللفظي، مع عدم قدرة العرب على الإتيان بمثله دليل على عجزهم.
- يدل على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك حين تتجلى الصور البلاغية البديعة في ثنايا المتشابه اللفظي، وقد تلقنها العرب الأوائل وعقلوها، وما حاولوا قط معارضة القرآن الكريم.
- يرد على أهل الزيغ والضلال زعمهم أن المتشابه ما هو إلا تكرار يغني بعضه عن بعض؛ وذلك بإظهار عظمة القرآن الكريم، وبلاغته في متشابهه.
- التكرار فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} (هود: 120).
- حصول العظة والاعتبار؛ ذلك أن المتشابه فن من فنون القصص القرآني، قال سبحانه: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف: 111).
- يساعد على إتقان حفظ القرآن الكريم.
- يزيد القارئ لكتاب الله إيماناً؛ لما يتبين له من فنون البلاغة، التي عجز عنها البلغاء، ووقف من دونها الفصحاء.
مؤلفات علم المتشابه اللفظي:
ألف العلماء جملة من الكتب تتناول موضوع المتشابه اللفظي، وأهم الكتب التي تُذكر في هذا الباب، ما يلي:
- كتاب (درة التنزيل وغرة التأويل) لـ الخطيب الإسكافي، وهو أهم مؤلَّف في هذا الباب.
- كتاب (البرهان في متشابه القرآن) لـ محمود بن حمزة الكرماني.
- كتاب (ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل) لـ ابن الزبير الغرناطي.
- كتاب (كشف المعاني في المتشابه من المثاني) لـ بدر الدين ابن جماعة.
- كتاب (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن)، للشيخ زكريا الأنصاري. وهو اختصار لكتاب (البرهان).
المصدر: موقع إسلام ويب